السلطان قلج أرسلان الثاني: تحديات الحملة الصليبية الثالثة وصراعات الأيوبيين وتقسيم السلطة

ما الذي يجعل من قلج أرسلان الثاني، المعروف أيضًا باسم عز الدين قلج أرسلان بن ركن الدين مسعود، شخصية محورية في تاريخ السلاجقة الروم؟ وُلِدَ في فترة مشحونة بالأحداث السياسية والاجتماعية، حيث تعلم فنون الحرب والسياسة في كنف عائلة سلاجقة الروم. لكن كيف استغل هذه المعارف والتجارب لبناء إمارة قوية في وجه التحديات الداخلية والخارجية؟

تولى قلج أرسلان الحكم بعد وفاة والده، السلطان مسعود بن قلج أرسلان الأول، في وقت كان يشهد فيه العالم الإسلامي تهديدات متزايدة من الصليبيين. كيف واجه هذا السلطان الشاب التحديات التي تعصف بسلطته؟ هل استطاع أن يحافظ على وحدة بلاده في ظل تلك الظروف المضطربة، أم أن الأحداث اللاحقة كانت أكبر من طموحاته؟

تجسد فترة حكم قلج أرسلان الثاني نقطة تحول تاريخية، ليس فقط بالنسبة للسلاجقة، ولكن أيضاً لمنطقة الأناضول ككل. فكيف تمكن من تحقيق انتصارات عسكرية وتوسيع نفوذ السلاجقة، وأي تأثير تركت تلك الانتصارات على العلاقات مع القوى الأخرى، مثل الأيوبيين والصليبيين؟ في هذه المقالة، سنستكشف ولادة قلج أرسلان الثاني ونشأته، وتوليه الحكم، وما تلا ذلك من أحداث محورية شكلت مسار تاريخ المنطقة.


سلطان سلاجقة الروم قلج أرسلان الثانى
قلج أرسلان الثانى


ولادة قلج أرسلان الثاني ونشأته وتوليه الحكم

1.وُلِدَ قلج أرسلان الثاني:المعروف أيضًا باسم عزالدين قلج أرسلان بن ركن الدين مسعود، في عام 1107م (501هـ) في أجواء مشحونة بالأحداث السياسية والاجتماعية. نشأ في كنف أسرة سلاجقة الروم، حيث تعلّم فنون الحرب والسياسة منذ صغره. تلقى تعليمه على يد أفضل المعلمين، مما ساعده على فهم تعقيدات الحياة السياسية.

2.تولى الحكم في عام 1156م (651هـ) بعد وفاة والده:، السلطان مسعود بن قلج أرسلان الأول. كان توليه الحكم في وقت عصيب، حيث كانت السلطنة تواجه تهديدات من الجبهات الخارجية، خاصة من الصليبيين في الشام. ومع ذلك، استطاع أن يثبت نفسه كقائد حكيم وقوي. اعتمد على استراتيجيات سياسية عُرف بها، مثل التحالفات والمناورات العسكرية، ليعزز سلطته ويضمن استقرار الدولة.

تحت قيادته، حقق السلاجقة العديد من الانتصارات العسكرية وساهم في توسيع نفوذهم في المنطقة. هذه الفترة كانت بداية لتاريخ جديد في إمارة السلاجقة الروم، حيث استطاع قلج أرسلان الثاني توحيد الجهود لمواجهة التحديات الكبرى


 سقوط الإمارة الدانشمنديَّة

في عام 573هـ (1177م)، شنَّ قلج أرسلان الثاني هجومًا قويًا على مدينة ملطية، مستغلًا الاضطرابات السياسية الداخلية في الإمارة الدانشمندية. كانت تلك الفترة حاسمة في تاريخ السلاجقة، حيث أسس أرسلان سلطته من خلال تحركات استراتيجية مدروسة. 

1. التحضير للهجوم: استعد قلج أرسلان جيدًا، مستفيدًا من ضعف خصومه. استمر الحصار السلجوقي للمدينة لمدة أربعة أشهر. خلال هذه الفترة، عانى السكان من نقص حاد في الغذاء، بسبب حلول فصل الشتاء وارتفاع حدة الحصار.

2. الضعف الدانشمندي: كان ناصر الدين محمد، الأمير الدانشمندي، غير قادر على مواجهة التحديات. أظهرت مواقفه ضعفًا ملحوظًا، خاصة في ظل الخوف من انتفاضة الأُمراء المحليين ضده. لذا، قرر إرسال رسالة إلى قلج أرسلان، معبرًا عن استعداده لتسليم المدينة.

3. تسليم ملطية: وافق السلطان على تسليم المدينة مقابل أمانه. في 29 ربيع الآخر 573هـ (25 أكتوبر 1177م)، دخل قلج أرسلان ملطية، مُعلنًا نهاية الإمارة الدانشمندية. 

4. النتائج المترتبة: كان لهذا السقوط تداعيات كبيرة. لم يعد هناك أي دولة إسلامية تنافس السلاجقة في الأناضول، مما أتاح لهم توسيع نفوذهم. أصبح قلج أرسلان حاكمًا قويًا، ما مهد له الطريق نحو المزيد من الفتوحات والتحديات.

تأسيس قلج أرسلان الثاني لمملكته القوية يعد نقطة تحول تاريخية. فقد مهد الطريق أمام السلاجقة لمواجهة الأعداء الخارجيين والتحديات الداخلية بفعالية. سنرى كيف تطورت الأمور في الفترة التالية، مع ازدياد التوترات بين السلاجقة والأيوبيين. 


العلاقات بين سلاجقة الروم والأيوبيين

بعد سقوط الإمارة الدانشمندية، تحول تركيز السلطان قلج أرسلان الثاني نحو التوسع في المناطق الجنوبية، مستهدفًا مناطق رعبان وكيسوم. في تلك الفترة، توفي نور الدين محمود زنكي، تاركًا الحكم في يد ابنه الصالح إسماعيل الذي تولى شؤون حلب ودمشق. وقد كان يوسف بن نجم الدين الأيوبي، المعروف باسم صلاح الدين، حاكمًا في مصر.


الصراع بين السلاجقة والأيوبيين فى عهد قلج ارسلان الثانى
الصراع بين السلاجقة والأيوبيين


1.توتر العلاقات بين الدولتين: بدا أن هناك تصاعدًا في التوترات بين السلاجقة والأيوبيين. فقد خطط قلج أرسلان للتدخل في شؤون الشام لضمان السيطرة على طرق التجارة المؤدية إلى الفرات. كانت تلك الخطوات تتماشى مع السياسة السلاجوقية التقليدية التي ابتدأت مع مؤسس السلطنة، سليمان بن قتلمش. لكن من أجل عدم الظهور بمظهر المعتدي، أرسل قلج أرسلان رسولًا إلى صلاح الدين.

2.مطالب قلج أرسلان: في رسالته، طلب قلج أرسلان استعادة حصنين كانا سابقًا ضمن ممتلكات سلاجقة الروم. لكن صلاح الدين الأيوبى رفض هذا الطلب، مما زاد من حدة التوتر بين الطرفين. لم يمض وقت طويل قبل أن يهاجم قلج أرسلان حصن رعبان في عام 575 هـ (1179 م)، مما أدى إلى رد فعل سريع من صلاح الدين.

3.المعركة الحاسمة: أرسل صلاح الدين أمير حماة، تقي الدين عمر بن شاهنشاه، لمواجهة السلاجقة. أسفرت المعركة عن هزيمة كبيره لقلج أرسلان، مما أضعف موقفه في المنطقة. ورغم هذه الهزيمة، لم تتطور الأمور إلى صراع شامل، حيث تمالأ الطرفان على التفاهم، وانصرف صلاح الدين إلى توحيد الجبهة الإسلامية لمواجهة الصليبيين.

حيث أن العلاقات بين السلاجقة والأيوبيين شهدت توترًا مستمرًا، لكنها كانت محكومة بحسابات سياسية معقدة. هذا التوتر لم يؤثر فقط على المنطقة، بل كان له تأثيرات بعيدة المدى على العلاقات الإسلامية بشكل عام. فالسيطرة على الشام كانت تمثل مفتاحًا رئيسيًا في مواجهة التحديات الخارجية، مما يعكس أهمية تلك الحقبة في التاريخ الإسلامي.


 الحملة الصليبية الثالثة وتأثيرها على السلاجقة

في عام 1189، أطلق الغرب الأوروبي حملته الصليبية الثالثة، التي كانت تهدف إلى استعادة القدس بعد فشل الحملة الصليبية الثانية. كان الإمبراطور الألماني فريدريك بربروسا من أبرز المشاركين في هذه الحملة، وقد أرسل رسائل إلى الملوك والأمراء في المنطقة، بما في ذلك السلطان قلج أرسلان الثاني.

1.استجابة قلج أرسلان: رد قلج أرسلان بشكل إيجابي على دعوة فريدريك، متعهدًا بالمساعدة. كانت تلك خطوة استراتيجية من جانبه. في الوقت نفسه، حاول الإمبراطور البيزنطي التحالف مع صلاح الدين ضد فريدريك وقلج، مما أدى إلى تعقيد المشهد السياسي في المنطقة.

2.التحديات أمام الحملة الصليبية: عندما وصل الإمبراطور فريدريك إلى البلقان، أرسل رسالة إلى صلاح الدين مفادها أنه لن يسمح له بعبور أراضيه. ومع ذلك، استطاع فريدريك تجاوز الأراضي البيزنطية والوصول إلى هضبة الأناضول السلجوقية. في هذه المرحلة، قدم قلج أرسلان الدعم للجيش الألماني من خلال تزويده بالمؤن وتأمين سلامته داخل أراضيه.

3.الصراع بين الدولتين الأسلاميتين: مع تولي عز الدين كيكاوس السلطة بعد وفاة قلج أرسلان، نشأت صراعات جديدة. طمع عز الدين في السيطرة على حلب، مما أدى إلى اندلاع معركة مع الجيش الأيوبي. هذه المعركة انتهت بهزيمة السلاجقة، مما ساهم في تفاقم الوضع الداخلي.تمثل الحملة الصليبية الثالثة نقطة تحول في تاريخ المنطقة. فقد أثرت بشكل مباشر على العلاقات بين السلاجقة والأيوبيين. في حين كان الهدف الأساسي للحملة هو استعادة القدس، إلا أن النتائج كانت متشابكة ومعقدة، حيث أدت إلى توترات داخلية وصراعات على السلطة. هذه الأحداث أظهرت كيف يمكن للصراعات الخارجية أن تؤثر في الصراعات الداخلية، مما يعكس الطبيعة الديناميكية للتاريخ الإسلامي.

 


تقسيم السلطنة على ابنائه وتداعياته السياسية

عقب تحقيق الوحدة السياسية في الأناضول تحت حكم قلج أرسلان الثاني، بدأت الأمور تتجه نحو التفكك. فقد ساهمت فترة السلام النسبي في غياب الأخطار الخارجية في بروز صراعات عائلية حادة. كان السلطان قلج أرسلان يشعر بالتعب بعد سنوات من الحكم، مما دفعه إلى اتخاذ قرار تقسيم السلطنة بين أبنائه الأحد عشر.

 قرار تقسيم السلطة

في عام 1186م، قرر قلج أرسلان تقسيم سلطته بشكل غير مدروس. هذا القرار كان بمثابة خطأ استراتيجي. فقد تم تقسيم المملكة على الشكل التالي:

1. قطب الدين ملكشاه: في سيواس وآق سراي.

2. ركن الدين سليمان: في توقاد.

3. ناصر الدين بركياروق شاه: في نيكسار.

4.مغيث الدين طغرل شاه: في البستان.

5. محمود: في قيصرية.

6. معز الدين قيصر: في ملطية.

7. محيي الدين مسعود شاه: في أنقرة.

8. سنجر شاه: في هرقلة.

9. أرسلان شاه: في نكيدة.

10. نظام الدين أرغون شاه: في أماسية.

11. غياث الدين كيخسرو: في قونية.

نتج عن هذا التقسيم تدهور السلطة المركزية. إذ أصبح كل ابن يستغل إقطاعه لصالحه الشخصي، متجاهلًا الحكومة المركزية في قونية. وبالتالي، فقد السلطان قوته الفعلية. 

الصراعات بين الإخوة على السلطه

بمرور الوقت، تفاقمت الخلافات العائلية. كان كل ابن يتربص بالآخر، مما أدى إلى توترات عميقة. أبرز هؤلاء كان ملكشاه المعروف بـ "قطب الدين". لقد كان طموحه السياسي غير عادي. استولى على قونية، وحاول السيطرة على الأراضي التي منحها له والده. لكن محاولاته لم تكن سهلة.

في خضم هذه الفوضى، أدرك قلج أرسلان خطأه. سعى جاهدًا لإعادة توحيد البلاد تحت قيادة واحدة. قرر أن يكون ابنه غياث الدين كيخسرو هو من يتولى الحكم. هذه الخطوة كانت محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. 



وفاة قلج أرسلان الثاني وتأثيرها على السلطنة

في عام 1192م، شهدت السلطنة السلجوقية حدثًا محوريًا، وهو وفاة السلطان قلج أرسلان الثاني. كانت وفاته نتيجة طبيعية للأعباء الثقيلة التي تحملها طوال فترة حكمه، لا سيما بعد أن أصيب بمرض أثر على صحته.

•خطوات نحو إعادة التوحيد:

قبل وفاته، أدرك قلج أرسلان خطأ تقسيم سلطته بين أبنائه، وسعى جاهدًا لإعادة توحيد البلاد. اختار ابنه الأصغر كيخسرو ليتولى الحكم بعده، مُعبرًا بذلك عن ثقته في لياقته للقيادة. لكن، لم يكن هذا الاختيار كافيًا لتفادي العواصف السياسية القادمة.

•الصراعات العائلية بعد الوفاة:

عقب وفاة السلطان، تشتتت الأمور مرة أخرى. ظهر صراع حاد بين أبنائه على السلطة. فقد استغل بعض الإخوة غياب الوالد ليتنافسوا على الحكم. كان محمود أول من سقط ضحية للصراع، حيث تم قتله. بعد ذلك، توفي ملكشاه بسبب مرضه، مما زاد من توتر الوضع في السلطنة.

•سعي سليمان نحو السلطة:

وسط هذه الفوضى، برز سليمان، أحد أبناء قلج أرسلان، كقوة طموحة. طمع في السيطرة على أراضي إخوته وبدأ هجومه على سيواس وآق سراي. لم يكن يهمه ما قد يحدث لأسرته، بل كان همه الوحيد هو الاستيلاء على السلطة.

•وحدة السلطنة تتهدد:

مع استمرار هذه النزاعات، واجهت السلطنة تحديات خطيرة. إذ كان من المتوقع أن تندلع صراعات أكبر، تهدد ما تبقى من وحدة السلجوقيين. رغم جهود قلج أرسلان في توحيد البلاد، تركت وفاته فراغًا سياسيًا كبيرًا، مما زاد من حالة عدم الاستقرار.


 خاتماً تُعد فترة حكم قلج أرسلان الثاني

 نقطة تحول بارزة في تاريخ السلاجقة الروم، حيث وُلِد ونشأ في كنف عائلة سلاجقة عريقة، مما أعدّه لتولي الحكم في وقت عصيب. تولّى السلطة بعد وفاة والده في عام 1156م (651هـ) وواجه تحديات جسيمة من الصليبيين والتهديدات الداخلية. من خلال استراتيجياته السياسية والعسكرية المدروسة، استطاع أن يحقق انتصارات ملحوظة، مثل سقوط الإمارة الدانشمندية، وتعزيز سلطته في الأناضول.

ومع ذلك، لم تكن الأمور تسير بسلاسة؛ فقد اتخذ قلج أرسلان قرارًا مثيرًا للجدل بتقسيم سلطته بين أبنائه، مما أدى إلى تفكك السلطة وانفجار النزاعات الداخلية. بالإضافة إلى ذلك، أثار تحالفه مع الصليبيين ضد الأيوبيين تساؤلات حول ولاءاته السياسية، مما قد يُعتبر خيانة لمبادئ الوحدة الإسلامية.

بصفة عامة، يُظهر تاريخ قلج أرسلان الثاني كيف يمكن لقائد واحد أن يؤثر في مسار الأحداث التاريخية، سواء بالإيجاب أو بالسلب. لقد ترك إرثًا معقدًا يتطلب منا إعادة النظر في استراتيجيات الحكم والتحالفات السياسية في ظل التحديات الداخلية والخارجية.

عزيزى القارئ: كيف ترى تأثير قرار تقسيم قلج أرسلان الثاني للسلطة بين أبنائه على استقرار السلطنة وهل يعتبر تحالفه مع الصليبيين ضد الأيوبيين خيانة لمبادئ الوحدة الإسلامية؟  شاركنا رأيك فى تعليق!


مقالات ذات صلة

عصور ذهبية
عصور ذهبية
تعليقات