كيف لشخصية مثل مروان بن الحكم أن تصعد لتغير ملامح التاريخ الإسلامي بشكل جذري؟ كيف تمكن من إدارة المناصب الحساسة في ظل خلافة عثمان بن عفان، ثم الانتقال بمهارة فائقة إلى قلب الأحداث تحت حكم معاوية بن أبي سفيان، ليصبح الخليفة الذي أعاد ترتيب أوراق الدولة الأموية في وقت كانت فيه على شفا الانهيار؟ ما هي الحركات الثورية والتحديات الكبرى التي واجهته، وكيف استطاع بذكاء سياسي وخبرة إدارية أن ينقل السلطة من البيت السفياني إلى البيت المرواني، ويؤسس لمرحلة جديدة في تاريخ الأمويين؟ كيف تمكن من مواجهة أعدائه في الداخل والخارج، وإعادة بناء دولة كانت تترنح تحت وطأة الفتن والانقسامات؟ هذه الأسئلة تفتح لنا بابًا لاستكشاف حياة مروان بن الحكم، الخليفة الذي لم يكن مجرد رجل سياسة بل قائداً استطاع الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية في وقت حرج، وترك إرثًا ما زال مؤثرًا حتى اليوم.
نشأة مروان بن الحكم
مروان بن الحكم بن أبي العاص وُلد في السنة الثانية للهجرة (624 م) في المدينة المنورة. ينحدر مروان من أسرة قريشية نبيلة وعريقة، تُعرف بقوتها ونفوذها في المجتمع المكي والمدينة لاحقاً. والده، الحكم بن أبي العاص، كان أحد قادة قريش في مكة ومن أعداء الإسلام في بدايته، لكنه اعتنق الإسلام بعد فتح مكة. أما مروان، فقد نشأ في بيئة مسلمة منذ ولادته، متأثراً بالعلاقات الأسرية القوية التي ربطت بني أمية ببقية القبائل العربية. نشأ مروان في ظل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، الذي كان أيضًا من بني أمية، ما وفر له فرصًا كبيرة للتعلم واكتساب المهارات القيادية والسياسية. تأثر مروان بشخصية عثمان وولائه لبني أمية، مما جعله يُعتبر من أبرز المدافعين عن البيت الأموي طوال حياته.
مروان بن الحكم |
توليه المناصب في عهد عثمان بن عفان
• عندما تولى عثمان بن عفان الخلافة في العام 23 هـ (644 م)، كان مروان بن الحكم في مقتبل عمره، ولكنه كان من المقربين من الخليفة بسبب الروابط الأسرية. بدأ مروان في تولي بعض المهام الهامة في الإدارة، حيث عُين كاتبًا للخليفة، وهي وظيفة ذات مسؤولية كبيرة.
• كان دور مروان في كتابة الرسائل وإدارة شؤون الدولة مؤثرًا بشكل كبير، حيث كان يطلع على جميع تفاصيل الدولة الأسلامية ويساهم في اتخاذ القرارات. مع مرور الوقت، تعاظم نفوذ مروان وبدأ في تعزيز سلطته ، خاصة في المدينة المنورة.
• لكن هذا النفوذ أثار استياء بعض الصحابة والمسلمين الذين اتهموا مروان بأنه يتدخل في شؤون الخلافة بطريقة سلبية، وأنه كان سببًا في العديد من القرارات المثيرة للجدل التي اتخذها عثمان. رغم ذلك، استمر مروان في دعم عثمان حتى اللحظة الأخيرة.
موقف مروان خلال الفتنة الكبرى واغتيال عثمان
• كانت فترة خلافة عثمان بن عفان مليئة بالاضطرابات، حيث نشأت الفتنة الكبرى التي أدت في النهاية إلى اغتياله في العام 35 هـ (656 م). خلال هذه الفترة، كان مروان يلعب دورًا محوريًا في محاولة تهدئة الأوضاع وحماية الخليفة من الهجمات التي تعرض لها.
• حاول مروان الدفاع عن عثمان عندما حاصره الثوار في منزله بالمدينة. وفي أحد المواجهات مع الثوار، أُصيب مروان بجروح خطيرة، لكنه نجا من الموت. رغم ذلك، لم يستطع مروان إنقاذ عثمان، والذي قُتل في النهاية، مما ترك أثراً عميقاً في نفسه وجعله يسعى للانتقام لاحقاً من قتلة عثمان.
دور مروان في عهد معاوية بن أبي سفيان
1. فى بداية تولي علي بن أبي طالب الخلافة قام بمبايعته ،لاكن انقسم المسلمون إلى عدة فرق. كانت بني أمية من أكبر المعارضين لعلي، وكان مروان بن الحكم في صف معاوية بن أبي سفيان، الذي بدأ في جمع القوى لمواجهة علي واستعادة الخلافة للأمويين.
2. في معركة صفين بين جيشي علي ومعاوية، كان مروان من أبرز القادة الأمويين الذين دعموا معاوية. رغم أن المعركة لم تنتهِ بانتصار واضح لأي من الطرفين، إلا أن مروان لعب دورًا حاسمًا في استمرار النزاع وسعيه لتمكين بني أمية.
3. بعد اتفاق التحكيم بين علي ومعاوية، استمر مروان في تولي مناصب قيادية في الدولة الأموية الناشئة. في عهد معاوية، عُين مروان واليًا على المدينة المنورة لفترة طويلة، حيث أدار شؤون المدينة وأثبت جدارته كوالي قادر على حفظ النظام وتوطيد سلطة بني أمية.
4. ظل مروان قريباً من معاوية بن أبي سفيان، وأصبح من أهم مستشاريه، خصوصًا في الأمور السياسية. تمكن مروان من تعزيز نفوذ بني أمية داخل الحجاز وفي بقية المناطق الإسلامية.
انتقال الخلافة إلى مروان بن الحكم
• بعد وفاة يزيد بن معاوية في العام 64 هـ (683 م)، واجهت الدولة الأموية أزمة سياسية كبيرة بسبب غياب خليفة واضح. انقسم البيت الأموي إلى عدة أجنحة متصارعة، بينما أعلن عبد الله بن الزبير نفسه خليفة في مكة. في هذا السياق، ظهر مروان بن الحكم كأحد المرشحين الأقوياء لتولي الخلافة.
• عقد زعماء بني أمية اجتماعًا في مؤتمر الجابية، حيث تم اختيار مروان بن الحكم كخليفة جديد للدولة الأموية. كانت هذه الخطوة نقطة تحول هامة، حيث انتقلت الخلافة من البيت السفياني إلى البيت المرواني، مما أعطى مروان الشرعية للحكم.
• لم يكن انتقال الخلافة إلى مروان أمرًا سهلاً، إذ واجه العديد من التحديات من داخل الأسرة الأموية نفسها، ومن الخارج أيضًا، خاصة من عبد الله بن الزبير الذي كان يسيطر على الحجاز ويطمح للاستيلاء على بقية مناطق الدولة الإسلامية.
الحركات المعارضة التي واجهها مروان بن الحكم
1. حركة عبد الله بن الزبير: كان التحدي الأكبر الذي واجهه مروان هو عبد الله بن الزبير، الذي أعلن نفسه خليفة في مكة. حاول مروان التصدي لهذا التمرد بشتى الوسائل العسكرية والسياسية، ولكنه لم يتمكن من القضاء عليه بشكل كامل.
2. الخوارج: كان الخوارج يشكلون تهديدًا كبيرًا لحكم مروان بن الحكم، حيث رفضوا الاعتراف بشرعية خلافته. استخدم مروان القوة لقمعهم، وحقق عدة انتصارات ضدهم، لكنه لم يتمكن من القضاء عليهم نهائيًا.
3. التحالفات القبلية: واجه مروان معارضة من بعض القبائل التي كانت تدين بالولاء لعبد الله بن الزبير أو تعارض حكم بني أمية بشكل عام. رغم ذلك، استطاع مروان توحيد صفوف بني أمية وتحقيق استقرار نسبي في مناطق سيطرته.
السياسات الداخلية والخارجية لمروان بن الحكم
1. السياسة الداخلية: بعد توليه الخلافة، ركز مروان بن الحكم على استعادة الاستقرار الداخلي للدولة الأموية. قام بتعيين ولاة من أبناء عائلته وأقربائه في المناصب الرئيسية لضمان الولاء للبيت المرواني. كما سعى إلى قمع أي تمردات داخلية وإعادة تنظيم شؤون الدولة.
2. السياسة الخارجية: على الصعيد الخارجي، عمل مروان على تعزيز الحدود الشمالية للدولة الأموية، حيث كان الروم يشكلون تهديدًا دائمًا. قام بإرسال حملات عسكرية لتعزيز السيطرة على الحدود، واستطاع تحقيق بعض النجاحات العسكرية في هذا الصدد.
3. تعزيز القوة الاقتصادية: ركز مروان على تعزيز اقتصاد الدولة الأموية من خلال تحسين إدارة الأقاليم وتنظيم الضرائب. كانت هذه السياسات ضرورية لتعزيز قوة الدولة في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
نقل السلطة إلى البيت المرواني
• بعد تثبيت أقدامه في الحكم، بدأ مروان بن الحكم في التخطيط لنقل السلطة إلى أبنائه. اختار ابنه عبد الملك بن مروان كخليفة له، وعمل على تهيئة الظروف المناسبة لنجاح انتقال السلطة، مما أدى إلى تعزيز قوة البيت المرواني بشكل كبير.
• تمكن مروان من تحويل الخلافة الأموية من بيت معاوية (البيت السفياني) إلى بيته الخاص (البيت المرواني)، وهو ما ساعد على استمرارية حكم بني أمية لفترة طويلة بعد وفاته.
مدة حكم مروان بن الحكم ووفاته
1. تولى مروان بن الحكم الخلافة في عام 64 هـ (684 م) واستمر في الحكم حتى وفاته في 65 هـ (685 م)، أي أن مدة حكمه كانت قصيرة جدًا، حيث حكم لمدة عام واحد فقط.
2. توفي مروان بن الحكم في دمشق بعد أن تعرض للاختناق على يد زوجته بسبب نزاعات داخل الأسرة. وبعد وفاته، تولى ابنه عبد الملك بن مروان الخلافة، الذي يُعتبر واحدًا من أعظم خلفاء بني أمية.
فى الختام
بعد رحلة مليئة بالتحديات والصراعات، استطاع مروان بن الحكم أن يترك بصمته كأحد أبرز القادة في تاريخ الدولة الأموية. من خلال دهائه السياسي وحسن إدارته للأزمات، تمكن من تجاوز الفتن الداخلية والتحديات الخارجية، وأعاد ترتيب بيت الخلافة بنقل السلطة من البيت السفياني إلى البيت المرواني. ورغم أن فترة حكمه لم تكن طويلة، إلا أن تأثيرها كان عميقاً على مستقبل الدولة الأموية، حيث وضع أسس استقرار حكم أبنائه من بعده. لقد شكل مروان بن الحكم نموذجاً للحاكم الذي يجمع بين القوة والبصيرة السياسية، لتظل سيرته مثالاً على كيفية إدارة الأزمات وبناء دولة قادرة على الصمود أمام العواصف السياسية. ورغم كل الجدل الذي أحاط بشخصيته وأفعاله، لا يمكن إنكار أن مروان لعب دوراً حاسماً في الحفاظ على كيان الدولة الأموية وضمان استمرارها في مواجهة أعنف التحديات.
شكرًا لزيارتك مدونتي!
أحب أن أسمع أفكارك وآراءك حول ما تقرأه هنا. يرجى ترك تعليقك أدناه وإخباري برأيك في المقالة. تعليقاتك ذات قيمة بالنسبة لي وتساعد في تحسين المحتوى الذي أقدمه.
ملاحظة:
يرجى تجنب استخدام اللغة الغير اللائقة.
سيتم إزالة التعليقات التي تحتوي على روابط غير مرغوب فيها أو لغة مسيئة.
شكرًا لوقتك وأتطلع لقراءة تعليقاتك!