محمد الفاتح قيصر الروم: فاتح القسطنطينية وأسس الإمبراطورية العثمانية

السلطان محمد الفاتح، أمير العظمة ومؤسس إمبراطورية الشرق والغرب، الذي اختصر الزمن في مسيرته الفذة وأصبح رمزًا للفتوحات التي هزت أركان التاريخ. هو صاحب الرؤية التي لم تقتصر على تحطيم أسوار القسطنطينية، بل امتدت لتفتح أمامه أبواب الأمجاد، حتى أصبح "أبو الفتح والمعالي" و"قيصر الروم" في أن واحد. سلطان عظيم تربع على عرش الإمبراطورية العثمانية، محققًا فتوحًا مذهلة لم يشهد لها العالم مثيلًا، وتغييرًا جذريًا في وجه التاريخ. لقد سطّر اسمه بأحرف من ذهب في صفحات الزمن، مسجلاً انتصاراته العظيمة في قلب أوروبا وآسيا، ليحمل عن جدارة لقب "فاتح القسطنطينية" و"ملك البحرين" بعد أن أسقط آخر حصون الإمبراطورية البيزنطية. محمد الفاتح لم يكن فقط قائدًا عسكريًا فذًا، بل كان أيضًا رجل سياسة عبقريًا، بطلًا صادقًا، وقائدًا فذًا ربطت بينه وبين الأمة العثمانية علاقة عشق وشغف بالفتح والتوسع، ليخلّد اسمه في التاريخ، وتظل ذكراه محفورة في ذاكرة كل الأمة

السلطان محمد الفاتح سلطان الدولة العثمانية وفاتح القسطنطينة
السلطان محمد الفاتح

ميلاد الأمير محمد الفاتح: العبقري الصغير وصاحب البشارة النبوية

في يوم 30 مارس 1432م، الموافق 26 رجب 835هـ، ولد الأمير محمد الثاني بن مراد الثاني بن محمد الأول بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان غازي بن المؤسس عثمان ، المعروف لاحقًا بـ"محمد الفاتح"، ليصبح أحد أعظم الشخصيات في تاريخ الدولة العثمانية. كان والده السلطان مراد الثاني قد سماه تيمنًا باسم النبي محمد ﷺ، وكأن هذا الاسم حمل معه إشراقة البشارة النبوية التي وردت في حديثه ﷺ: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش".
تميز الأمير الصغير بذكاء فائق منذ نعومة أظافره، حيث أظهر شغفًا مبكرًا بالعلم والمعرفة. لم يكن مجرد أمير عادي، بل عبقري متعدد المواهب. أتقن ثماني لغات مختلفة، شملت التركية والفارسية والعربية واليونانية واللاتينية والروسية والصربية والإيطالية، مما أتاح له التواصل مع ثقافات متنوعة وأمم مختلفة.
إلى جانب ذلك، كان الأمير محمد شغوفًا بالفلسفة والعلوم الطبيعية، وكان يتمتع بمهارات بارزة في الهندسة العسكرية، وهي التي أسهمت لاحقًا في بناء الحصون وتطوير الخطط العسكرية العبقرية. لم يقتصر اهتمامه على العلوم فقط، بل أبدع أيضًا في الرسم والفنون، مما يعكس روحه المتعددة الجوانب.
لقد كان الأمير محمد بن مراد الثاني مثالًا فريدًا في الدولة العثمانية، حيث لم يشهد البلاط الملكي من قبله أميرًا بهذه الدرجة من الكفاءة والإبداع. كانت طفولته المبكرة تعد وعدًا بمستقبل استثنائي، وها هو التاريخ يشهد أن هذا الوعد تحقق بأكثر مما كان متوقعًا.

تنازل السلطان مراد الثانى عن الحكم الفترة الأولى للسلطان محمد الفاتح 

في عام 1444م، الموافق 848هـ، واجهت الدولة العثمانية أوقاتًا عصيبة بعد سلسلة من الهزائم المريرة. زاد الوضع سوءًا بوفاة الأمير علاء الدين، مما أدخل السلطان مراد الثاني في حالة من الحزن الشديد دفعته للتخلي عن الحكم والاعتكاف للعبادة. وهكذا، تنازل السلطان مراد عن العرش لابنه الأمير محمد الثاني، وهو في الثانية عشرة من عمره فقط الذي أصبح السلطان محمد الفاتح.
لم يمر هذا الحدث مرور الكرام على أوروبا. فقد رأى البابا في صغر سن السلطان فرصة ذهبية للقضاء على الدولة العثمانية. سارع بإرسال رسائل إلى ملوك أوروبا، داعيًا إلى حشد الجيوش ومحو الدولة العثمانية من الوجود.
لكن السلطان الشاب أظهر ذكاءً وحنكة تفوق عمره. حينما أدرك حجم الخطر، أرسل رسالة عاجلة إلى والده يدعوه لاستلام الحكم مرة أخرى نظرًا لخطورة الوضع. لكن السلطان مراد الثاني رفض، مما دفع السلطان محمد لإرسال رسالة أخرى قال فيها بحكمة واضحة: "إن كنت سلطانًا، فواجبك الدفاع عن البلاد والعباد، وإن لم تكن سلطانًا، فعليك طاعة السلطان والامتثال لأمري".
بهذه الكلمات المؤثرة، وافق السلطان مراد على طلب ابنه وعاد إلى العرش. بسرعة فائقة، حيث تولى إعادة تنظيم الجيش وتحرك لمواجهة الحملات الصليبية. كانت معركة فارنا ومعركة كوسوفو الثانية من أبرز انتصارات السلطان مراد، حيث تمكن من استعادة الأراضي المفقودة وإعادة هيبة الدولة العثمانية.

عودة السلطان محمد الفاتح للحكم: انطلاقة جديدة نحو الفتح

في عام 1451م، الموافق 855هـ، توفي السلطان مراد الثاني بعد حياة حافلة بالإنجازات والتحديات. كان لوفاته أثر كبير على الدولة العثمانية، إذ انتقل العرش مجددًا إلى الأمير محمد الثاني، وهو فى التاسعة عشر من العمر الذي أصبح فيما بعد السلطان محمد الفاتح.
كان السلطان الشاب قد اكتسب خبرة كبيرة خلال السنوات السابقة، حيث تعلم من حكم والده إدارة الحروب وتجارب التنازل والعودة للحكم. هذه الخبرات أهلته ليبدأ فترته الجديدة كسلطان برؤية واضحة واستراتيجية طموحة.
مع توليه الحكم مرة أخرى، أصبحت أنظار أوروبا والعالم الإسلامي تتجه إليه. فقد توقع الجميع أن السلطان الشاب سيحدث تغييرًا جذريًا في تاريخ الدولة العثمانية، وهو ما تحقق بالفعل في السنوات التي تلت ذلك.

القسطنطينية تحت أنظار السلطان محمد الفاتح: دروس من الفشل نحو النصر

بمجرد أن أصبح السلطان محمد الفاتح على عرش الدولة العثمانية، بدأ يضع نصب عينيه حلم فتح القسطنطينية، تلك المدينة التي حلم المسلمون بفتحها على مدار ألف عام. كانت القسطنطينية تمثل تحديًا تاريخيًا لكل القادة العظام الذين مروا في تاريخ الإسلام والعثمانيين.
بدأت المحاولات الأولى لفتح المدينة مع الخليفة معاوية بن أبي سفيان، ثم تتابع بعدها العديد من القادة مثل الخليفة سليمان بن عبد الملك، وخلفاء من الدولة العباسية، وصولًا إلى السلطان بايزيد الأول الذي كان قريبًا جدًا من فتحها لولا تدخل تيمورلنك في معركة أنقرة، مما أجبره على فك الحصار والقتال في جبهة أخرى.
توالت المحاولات الفاشلة بعدها مع السلطان مراد الثاني الذي كان أيضًا على وشك فتح القسطنطينية، لكن الهجوم الصليبي الكبير جعله يضطر إلى فك الحصار والالتفات لملاقاة الجيش الصليبي. ورغم أن جميع هذه المحاولات انتهت بالفشل، فإنها كانت دروسًا ثمينة للسلطان محمد الفاتح، الذي تعلم من أخطاء أسلافه.
فكر السلطان محمد الفاتح بعمق في كيفية التحضير لهذه الحملة الكبرى. كانت تجاربه السابقة مع فشل المحاولات منبعًا لأفكار جديدة وأكثر إبداعًا في التخطيط العسكري. في ضوء هذه الدروس، قرر أن يبدأ الحملة بأدوات وتقنيات لم تُستخدم من قبل، وهو ما سيقوده إلى تحقيق النصر النهائي وفتح القسطنطينية في عام 1453م.

الاستعدادات الحربية للسلطان محمد الفاتح: حصن روملي حصار والتطورات العسكرية

بدأ عهد السلطان محمد الفاتح بنهج غير مسبوق في التخطيط العسكري، حيث قرر التفرغ تمامًا لفتح القسطنطينية، تلك المدينة التي بدت شبه مستحيلة الفتح في ذلك الوقت. لذلك، عقد هدنة ومعاهدات مع جميع أعدائه لكي لا يتشتت جهده ويستطيع التركيز على تحقيق هدفه الكبير.
أولى خطواته كانت بناء أقوى حصن في ذلك العصر، وهو حصن روملي حصار، الذي صممه بيده لما كان يتمتع به من عبقرية هندسية. استغرق بناء هذا الحصن الضخم ثلاثة أشهر فقط، وكان موقعه في أضيق نقطة من مضيق البوسفور على الجانب الأوروبي، حيث كان يواجه حصن أناضول حصار من الجهة المقابلة. كانت هذه الاستراتيجية تهدف إلى قطع إمدادات القسطنطينية القادمة من البحر الأسود، مما يجعل المدينة محاصرة بشكل شبه كامل.
لكن السلطان محمد الفاتح لم يتوقف عند ذلك، فقد عمل على مضاعفة قوة الجيش العثماني، فزاد عدده من 100 ألف جندي إلى 260 ألف جندي. وكان يوزع هذه القوات بشكل استراتيجي على المدن والمناطق الحدودية، ليكون لديه قوات احتياطية لحماية المدن العثمانية أثناء الحصار، فضلًا عن وجود قوة ضاربة في العاصمة أدرنة جاهزة للتحرك في أي وقت إذا تعرضت الدولة لأي هجوم خارجي أو عصيان داخلي. بهذه الطريقة، أصبح الجيش العثماني من أكثر الجيوش استعدادًا وأكثرها سرعة في العالم.
كما أولى السلطان اهتمامًا بالغًا في تطوير سلاح المدفعية. فقد تعاقد مع المهندس المجرى أوربان، الذي صنع له أقوى وأضخم مدفع في العالم في تلك الفترة، وكانت القذيفة التي يطلقها تزن طنًا ونصف، وكان المدفع نفسه يزن مئات الأطنان ويحتاج إلى 100 ثور لتحريكه. لم يقتصر الأمر على المدفعية فحسب، بل قام بتسليح جنوده بالبُنادق، ليعزز قدرة الجيش العثماني في خوض المعركة بشكل متفوق، وقام بتجهيز أسطول بحري مكون من 150 سفينة بحرية.
هل يمكنك تصور مدى القوة العسكرية التي كان يمتلكها السلطان محمد الفاتح بهذا التحضير المتقن فى عامين فقط من إستلامة الحكم؟

القسطنطينية: المدينة المنيعة ومحاولات الإمبراطور للبقاء

كانت القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، تعتبر واحدة من أقوى المدن الحصينة في العالم في ذلك الوقت. وعلى الرغم من أن الجيش البيزنطي لم يكن يمتلك القوة نفسها التي كان يملكها الجيش العثماني الضخم، إلا أن المدينة كانت محمية بطبيعتها المميزة، حيث كانت محاطة بالمياه من ثلاث جهات، بحر مرمرة، ومضيق البسفور، والقرن الذهبية، وتوجد سلسلة ضخمة بطول 750 متر تمنع السفن من الدخول للقرن الذهبي، مما جعلها صعبة الهجوم.
كما كانت القسطنطينية محصنة بثلاث أسوار ضخمة، بين كل سور وسور خندق مملوء بالمياه، وهو ما أضاف طبقة إضافية من الحماية. كل سور كان مرتبطًا بالآخر عبر جسر يمكن رفعه أو هدمه أثناء الحصار، مما يزيد من صعوبة اقتحام المدينة. وكان ارتفاع هذه الأسوار يصل إلى 30 مترًا، مما جعلها حصنًا منيعًا في وجه أي هجوم. وعلى الرغم من هذه التحصينات الهائلة، كانت المدينة محاصرة من جميع الجهات، الأمر الذي جعل من عملية فتحها تحديًا هائلًا.
في ظل هذه التحصينات، حاول الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الحادي عشر التوصل إلى اتفاق مع السلطان محمد الفاتح عبر بعض المستشارين المقربين له، لكن السلطان محمد الفاتح كان حاسمًا في قراره ورفض أي عرض للصلح. أصر على فتح القسطنطينية، وأعلن أنه لن يتراجع عن هدفه.
عندما أدرك الإمبراطور أن الحصار أصبح واقعًا، قرر الاستعداد له بكل قوة، فأمر بغلق جميع أبواب المدينة وأخذ الاحتياطات اللازمة بتخزين الطعام والمؤن والزخائر. كما بدأ بتجنيد المزيد من الجنود، وأمر باعتقال المسلمين الموجودين داخل المدينة. في الوقت نفسه، أرسل إلى الصليبيين يطلب الدعم، فعمدوا إلى إرسال المساعدات العسكرية التي كان معظمها من الكاثوليك. كان البيزنطيون يكرهون الكاثوليك بشدة، حيث قال أحد مستشاري الإمبراطور: "إنني أفضل أن أرى العمامة التركية داخل القسطنطينية على أن أرى القبعة الكاثوليكية."

انطلاق الجيش العثماني: الحصار العظيم على القسطنطينية

في عام 857هـ/1453م، تحرك السلطان محمد الفاتح بجيشه العثماني الكبير نحو القسطنطينية، متسلحًا بأقوى الأسلحة والمدافع التي عرفها العالم آنذاك. كان من بينها المدفع العثماني الضخم الذي حظي بحماية مشددة، حيث كُلف 400 جندي بتأمينه أثناء نقله، موزعين على جانبيه لضمان عدم انزلاقه خلال المسير.
مع وصول الجيش إلى مشارف القسطنطينية، نصب السلطان خيمته أمام بوابة سانت روماس، وصلى ركعتين لله تعالى طالبًا النصر، ثم خاطب جيشه في خطبة مؤثرة أكد فيها أهمية الهدف الذي يسعون لتحقيقه. بعد ذلك، بدأ بتوزيع قواته حول المدينة، حيث تمركز الجيش الإنكشاري في المنتصف، والفرسان على الأجنحة، فيما تولى الأسطول البحري العثماني محاصرة القرن الذهبي من الجانب المائي، رغم السلاسل الحديدية التي حالت دون دخول السفن.
وفي السادس من أبريل 1453م، أعلن السلطان رسميًا فرض الحصار على المدينة. نصب المدافع في مواقع استراتيجية، بما في ذلك المدفع السلطاني، الذي كان يُعد أكبر مدفع عرفه ذلك العصر. بدأ القصف المركز على أسوار القسطنطينية، واستمرت المدافع في إطلاق القذائف بلا هوادة لسبعة أيام متواصلة. ومع ذلك، كانت وتيرة إطلاق المدفع السلطاني أبطأ بسبب حجمه الضخم، حيث كان يطلق ثلاث قذائف يوميًا فقط، ويتم تبريده بعناية لتجنب انفجاره بسبب الحرارة الشديدة.
على الجانب الآخر، كان البيزنطيون يواصلون الدفاع بشراسة. ففي الليل، كانوا يعيدون ترميم الأسوار المدمرة، مما أضاف تحديات إضافية للجيش العثماني، وأطال أمد الحصار.
وفي الرابع عشر من أبريل، وقعت كارثة كبيرة عندما انفجر المدفع السلطاني فجأة أثناء تشغيله. تسبب الانفجار في وفاة العديد من الجنود، وكان من بين الضحايا المهندس المجري أوربان، مبتكر المدفع نفسه. هذا الحادث المؤسف أدى إلى خروج المدفع من الخدمة، مما أثر بشكل كبير على خطط الهجوم، لكنه لم يثنِ السلطان عن مواصلة حملته لتحقيق النصر العظيم.

الهجوم الأول: اختبار القسطنطينية

في الثامن عشر من أبريل 1453م، وبعد أن أحكم السلطان محمد الفاتح حصاره على القسطنطينية برًا وبحرًا، قرر شن أول هجوم واسع النطاق لاختبار قوة دفاعات المدينة. كان الهدف من هذا الهجوم المباغت تدمير إحدى بوابات المدينة الرئيسية وكسر الروح المعنوية للمدافعين.
بدأ الهجوم في الليل، حيث زحفت قوات الجيش العثماني نحو الأسوار، تحت غطاء من المدافع الثقيلة التي واصلت قصفها المكثف. كان الجيش الإنكشاري في المقدمة، مدعومًا بالمعدات الهندسية مثل السلالم الخشبية والأبراج المتحركة التي تم إعدادها خصيصًا لتسلق الأسوار.
رغم شجاعة القوات العثمانية وحجمها الكبير، إلا أن المقاومة البيزنطية كانت شديدة. استخدم المدافعون كافة الوسائل الممكنة لصد الهجوم، بدءًا من إطلاق السهام ورمي الحجارة الساخنة، وصولًا إلى سكب الزيت المغلي على الجنود المهاجمين. كانت الأسوار المنيعة والقوة الدفاعية العالية تصد كل محاولة للاختراق، مما جعل الهجوم أكثر صعوبة مما توقعه العثمانيون.
استمر القتال لساعات طويلة، ولكن لم يتمكن الجيش العثماني من تحقيق أي اختراق كبير في صفوف البيزنطيين. عند الفجر، أمر السلطان محمد الفاتح قواته بالانسحاب من الميدان، بعد أن أدرك أن دفاعات القسطنطينية أقوى مما كان متوقعًا، وأن المدينة بحاجة إلى استراتيجية أكثر حنكة لكسر حصونها.

دخول سفن جنوة إلى القرن الذهبي: تحول استراتيجي في حصار القسطنطينية

في العشرين من أبريل عام 1453م (857هـ)، شهد حصار القسطنطينية تحولًا دراماتيكيًا عندما تمكنت خمسة سفن حربية ضخمة أرسلتها دولة جنوة بقيادة القائد الشهير يوحنا جوستنياني من اختراق الحصار البحري العثماني. كانت السفن محملة بالإمدادات والذخائر لدعم الجيش البيزنطي المحاصر داخل القسطنطينية.
رغم الجهود الكبيرة التي بذلها الأسطول العثماني بقيادة القائد بلط أغلو سليمان باي، فشل في منع السفن من الوصول إلى القرن الذهبي. لعبت السلاسل الحديدية الضخمة الممتدة عبر الميناء دورًا حاسمًا في تأمين دخول السفن، حيث تم رفعها مؤقتًا لتسهيل عبور الإمدادات، ما أضاف مزيدًا من التعقيد للموقف العثماني.
كان هذا الحدث بمثابة دفعة معنوية قوية للبيزنطيين، بينما شكّل تحديًا كبيرًا للجيش العثماني بقيادة السلطان محمد الفاتح، الذي اضطر لإعادة تقييم استراتيجيته البحرية لتجاوز هذه العقبة.

السلطان محمد الفاتح ينقل السفن داخل القرن الذهبي عبر البر

في ليلة مظلمة من ليالي الحصار، أبدع السلطان محمد الفاتح فكرة استثنائية غيرت مجرى الأحداث وأربكت صفوف البيزنطيين. فقد قرر نقل السفن العثمانية عبر البر إلى داخل القرن الذهبي، متجاوزًا السلاسل الحديدية التي كانت تحمي الميناء. لتنفيذ خطته، أمر بإنشاء طريق مدهون بالزيت مصنوع من جذوع الأشجار الملساء، يشبه سكك القطارات في تصميمه، ما سهّل انزلاق السفن الضخمة فوق اليابسة.
جرت العملية بحذر شديد تحت ستار الليل، بينما أوعز السلطان بإشعال النيران في المعسكر العثماني وأمر المدافع بضرب مكثف للأسوار البيزنطية. كانت التكبيرات تعلو من الجنود، ما خلق ضجيجًا هائلًا أربك البيزنطيين وجعلهم يعتقدون أن الهجوم يتركز على أسوار المدينة. في هذه الأثناء، تم نقل السفن العثمانية على الطريق الخشبي بحذر، تحت إشراف دقيق من القادة العسكريين.
وبحلول الفجر، فوجئ البيزنطيون عندما وجدوا السفن العثمانية قد انتقلت داخل القرن الذهبي، وهو ما مثّل ضربة استراتيجية هائلة للمقاومة البيزنطية. هذه الحركة الذكية لم تكن فقط إنجازًا هندسيًا فريدًا، بل أثبتت أيضًا قدرة السلطان محمد الفاتح على التفكير خارج الصندوق وتحقيق المستحيل.

الهجوم الثاني: تعزيز الضغط وتصعيد القتال

في السابع من مايو 1453م، وبعد أن أجرى السلطان محمد الفاتح تعديلات على استراتيجياته العسكرية، أمر بشن الهجوم الثاني على القسطنطينية. هدف هذا الهجوم إلى استنزاف قدرات المدافعين وإيجاد ثغرة في الدفاعات الحصينة للمدينة.
بدأ الهجوم عند الفجر، حيث أطلق الجيش العثماني موجات متتالية من الجنود نحو الأسوار. تركز الهجوم على المناطق الأكثر ضعفًا في التحصينات، خاصةً بوابة سانت روماس، التي كانت تتعرض لقصف مكثف من المدافع خلال الأيام السابقة.
اعتمد العثمانيون في هذا الهجوم على تعزيز الإمدادات للجنود في الميدان، واستخدام آلات الحصار بشكل مكثف. كانت الأبراج المتحركة والسلالم الطويلة تُستخدم بكفاءة لمحاولة الوصول إلى قمة الأسوار، بينما واصلت المدافع قصفها المستمر لإضعاف الجدران. كما نشر السلطان فرقًا هندسية متخصصة لردم الخنادق المائية، مما سهل حركة الجنود نحو التحصينات.
رغم تكثيف الهجوم، إلا أن المقاومة البيزنطية ظلت صامدة. قاد الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر بنفسه الدفاع عن المدينة، وحشد قواته لمواجهة الموجات العثمانية المتتالية. كان البيزنطيون يستغلون الليل لإصلاح الأضرار الناجمة عن القصف، ويستخدمون أساليب مبتكرة لصد الجنود، مثل إشعال النار الإغريقية وصب الزيت المغلي من أعلى الأسوار.
استمر القتال لساعات طويلة، لكن المدينة المحصنة أثبتت مرة أخرى قدرتها على الصمود. مع ارتفاع عدد الضحايا وزيادة الإرهاق بين الجنود، أمر السلطان محمد الفاتح قواته بالانسحاب لإعادة تقييم الوضع. كان واضحًا أن المدينة تحتاج إلى ضربات أقوى واستراتيجية محكمة لهزيمة دفاعاتها.

حدوث ظواهر إلآلهية غامضة أثناء حصار القسطنطينية

في الرابع والعشرين والخامس والعشرين من مايو عام 1453م (857هـ)، شهدت القسطنطينية ظواهر طبيعية غريبة أثارت دهشة الجميع. بالنسبة للمسلمين، اعتُبرت هذه الأحداث آيات من الله تبشّرهم بالنصر القريب، بينما اعتبرها البيزنطيون نبوءات مشؤومة تنذر بسقوط مدينتهم.
أظلمت السماء بشكل مفاجئ، وغلفت سحب كثيفة المدينة، وترافق ذلك مع حدوث برق ورعد عنيفين استمرّا لعدة ساعات. تزامن هذا المشهد مع خسوف جزئي للقمر على شكل هلال وهو شعار العثمانين، وفى اليوم الثانى خرج نور أحمر فوق كنيسة اُياصوفيا الذي كان له وقع خاص على السكان البيزنطيين، إذ اعتبروه إشارة إلى اقتراب نهاية الإمبراطورية. في الوقت ذاته، كان المسلمون يرون في هذه الظواهر دلالة على الدعم الإلهي لجيش السلطان محمد الفاتح.
داخل القسطنطينية، زادت هذه الظواهر من حالة الخوف والارتباك بين الجنود والسكان، مما أضعف الروح المعنوية بشكل كبير. في المقابل، كان الجيش العثماني متماسكًا، واعتبر تلك الأحداث نصراً من الله حيث أحتفل المسلمين فى ذالك اليوم بالنصر قبل فتح القسطنطينية.

الهجوم الثالث: الفصل الأخير في فتح القسطنطينية

في الساعات الأولى من فجر 29 مايو 1453م (857هـ)، بدأ الهجوم الثالث والأخير الذي غيّر مجرى التاريخ، حيث استعد السلطان محمد الفاتح بحنكة عسكرية وحماس إيماني لاقتحام القسطنطينية. كان الهدف واضحًا: إنهاء الحصار الذي استمر لأسابيع وتحقيق النصر الذي انتظره المسلمون لأكثر من ثمانية قرون.

أمر السلطان بتركيز الجهود في ثلاث موجات متتالية. بدأت الموجة الأولى بقوات غير نظامية هدفها إنهاك البيزنطيين وإرباك دفاعاتهم، ورغم خسائر هذه القوات، إلا أنها أضعفت القوة الدفاعية للمدينة. بعدها، انطلقت الموجة الثانية من قوات نظامية أكثر انضباطًا، محققة تقدمًا نحو الأسوار الداخلية رغم المقاومة الشديدة.

وعند اللحظة الحاسمة، تقدمت القوات الانكشارية، نخبة الجيش العثماني، التي شنت هجومًا مركزًا على بوابة وادي لوكس، التي كانت تمثل نقطة الضعف في التحصينات البيزنطية. بفضل التكتيكات الذكية واستخدام المدفعية بشكل مكثف، تمكن الجنود من إحداث ثغرات كبيرة في الأسوار، مما أدى إلى اقتحام المدينة.

في الوقت نفسه، كان الأسطول البحري العثماني يضغط على الدفاعات البحرية للبيزنطيين في القرن الذهبي، مما منع أي محاولة للإمداد أو الهروب. وبحلول شروق الشمس، تمكن العثمانيون من رفع رايتهم على الأبراج، معلنين انهيار الدفاعات البيزنطية ومقتل الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر أثناء محاولته الدفاع عن مدينته .

السلطان محمد الفاتح وفتح القسطنطينية
فتح القسطنطينية

دخول السلطان محمد الفاتح إلى القسطنطينية: نصرٌ عظيم ورحمه إسلامية

في 29 مايو 1453م (857هـ)، بعد معركة عنيفة استمرت لأسابيع، دخل السلطان محمد الفاتح مدينة القسطنطينية، محققًا حلمًا طالما راوده ورآه المسلمون تحقق بفضل الله، وهو فتح القسطنطينية. كان دخول السلطان إلى المدينة بمثابة لحظة تاريخية فارقة في تاريخ العالم الإسلامي. ورغم أنه قد دمر أسوارها الحصينة، إلا أن حنكته السياسية والعسكرية أظهرت الكثير من الرحمة والإنسانية.
أول أعمال السلطان بعد دخوله المدينة كان تحويل كنيسة آيا صوفيا الكبرى إلى مسجد، لتصبح شاهدًا على انتصار الإسلام على أحد أعرق المراكز الدينية في العالم المسيحي. لم يكتفِ الفاتح بذلك، بل أمر بتأمين حياة جميع سكان المدينة، بما فيهم الصليبيين، وأظهر الرحمة والتسامح في تعامله مع الأسيرات والجنود البيزنطيين الذين وقعوا في الأسر. وقد أُعطيت لهم الأمان التام، مما يعكس قيم الرحمة التي جاء بها الإسلام.
ثم قام السلطان بتغيير اسم المدينة من القسطنطينية إلى إسلامبول، التي تحرفت لاحقًا إلى إسطنبول، لتحمل اسم العاصمة الجديدة التي أصبحت مركزًا مهمًا للثقافة والسياسة في العالم الإسلامي.
وكان لهذا النصر الكبير تأثيرٌ بعيد المدى على العالم الإسلامي. ففي القاهرة وبقية العواصم الإسلامية، نظم المسلمون احتفالاتٍ ضخمة تعبيرًا عن فرحتهم بهذا الانتصار العظيم، الذي تحقق بفضل الله تعالى. كما أن هذا الفتح قد جسد النبوءة التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بشر بفتح القسطنطينية على يد أميرٍ عظيم من أمة الإسلام.
إن دخول السلطان محمد الفاتح إلى القسطنطينية لم يكن مجرد انتصار عسكري، بل كان بمثابة عهد جديد في تاريخ الأمة الإسلامية، يشهد على تكامل القوة العسكرية مع الروح الإنسانية الرحيمة، ويُسجل من خلاله السلطان اسمه بأحرف من ذهب في سجل التاريخ.

حملة السلطان محمد الفاتح على صربيا: مناورات سياسية وصراع عسكري شرس

  • بعد فتح القسطنطينية عام 857هـ/1453م، وصلت إلى السلطان محمد الفاتح أنباء تفيد باستيلاء قيصر صربيا، جريج برانكوفيتش، على عدد من القلاع والمدن العثمانية مستغلًا انشغال الدولة بحصار القسطنطينية. إلا أن سقوط المدينة العظيمة بثّ الرعب في قلبه، فأرسل إلى السلطان مفاتيح بعض القلاع، طالبًا العفو. لكن السلطان رفض، وطالب بتسليم جميع القلاع الصربية.
  • حينما رفض القيصر ذلك، أعلن السلطان الحرب، وحشد جيشه الكبير نحو صربيا. حاول جريج برانكوفيتش جمع قوة قوامها 20 ألف جندي للدفاع، لكنه سرعان ما فرّ إلى مملكة المجر بعد أن أدرك ضخامة الجيش العثماني. نقل القيصر خزائن صربيا إلى قلعة سوريجة حصار، إلا أن الجيش العثماني وصل سريعًا، واستولى على القلعة وخزائنها. ووصف المؤرخ عاشق زاده تلك الغنيمة بأنها أعظم ما غنم السلطان محمد في حياته.
  • أرسل الفاتح وزيره على رأس 30 ألف فارس إلى منطقة نوفو بيردا، حيث سيطروا على جبالها ومناجم الحديد. حاول القيصر التفاوض مجددًا، معترفًا بولائه للعثمانيين ومتعهدًا بدفع جزية سنوية قدرها 30 ألف دينار. وافق السلطان على الصلح، تاركًا بعض المدن، مثل سمندرا وبلغراد، تحت السيطرة الصربية.

النقض والغدر: معركة بلغراد (861هـ/1456م)

في عام 861هـ/1456م، نقض جريج برانكوفيتش العهد وأعلن  ولاءه لمملكة المجر. أصبحت المدن الصربية، بما فيها بلغراد، تابعة للمجر، مما أثار غضب السلطان. حشد السلطان جيشًا جديدًا وتوجه إلى صربيا، حيث تحصن جريج في بلغراد، مدعومًا بـ30 ألف جندي أرسلهم ملك المجر، بالإضافة إلى قوات صليبية ومرتزقة دعمتها البابوية، ليصل قوام الجيش الصربي إلى 80 ألف جندي.
في إحدى ليالي المعركة، بدأ الهجوم العثماني، واندلع قتال عنيف. تكبّد الطرفان خسائر فادحة؛ فقد استشهد قائد الإنكشارية حسن آغا ونائب السلطان قراج باشا. كما أُصيب السلطان محمد الفاتح بسهم في ساقه، مما دفع الجيش العثماني إلى الانسحاب لإنقاذ حياته. ومع ذلك، أظهر العثمانيون بسالة فائقة، ولم يبق من الجيش الصليبي سوى 1500 جندي فقط.
توفي ملك المجر بعد أيام من إصابته في المعركة، ولحقه جريج برانكوفيتش، ورغم هذا النصر، دعا السلطان محمد الفاتح الله أن يتم فتح صربيا بالكامل على يد أحد أبنائه. وقد تحقق دعاؤه بعد عقود على يد السلطان سليمان القانوني، الذي أنهى الوجود الصربي المستقل تمامًا.

فتح سمندرا: إنجاز محمود باشا العسكري

كُلِّف القائد المحنك محمود باشا بفتح مدينة سمندرا الاستراتيجية على نهر الدانوب، ولم يتبقى غير مدينه بلغراد التي كانت آخر معاقل الصرب القوية. بفضل تخطيطه الدقيق واستخدام المدافع العثمانية الحديثة، تمكن من فرض حصار محكم على المدينة. وبعد قصف متواصل وانهيار دفاعات الحامية الصربية، دخلت القوات العثمانية المدينة منتصرة، وتم تعين على بك ميخائيل أول والى عثمانى على سمندرا، ما عزز سيطرة الدولة العثمانية على منطقة البلقان وأضعف نفوذ مملكة المجر وحلفائها.

فتح إقليمي لمبارد وإسبرطة في المورة: استراتيجية حاسمة لمحمد الفاتح

وجه السلطان محمد الفاتح أنظاره إلى منطقة المورة (بيلوبونيز)، التي كانت خاضعة لحكم ديميتريوس وتوماس باليولوجوس، أخوي الإمبراطور البيزنطي الراحل قسطنطين الحادي عشر. كان الأخوان يحكمان الإقليم باضطراب شديد، حيث عانى السكان من الاستبداد والاقتتال الداخلي.
في عام 1458م (862هـ)، انطلقت الحملة العثمانية بقيادة السلطان نفسه نحو المورة. بدأ الجيش العثماني بتحصين المواقع التي استعادها سابقًا وأحكم سيطرته على الطرق الحيوية. استغل السلطان حالة الانقسام بين الأخوين، مما سهل اختراق الحصون القوية في إقليم إسبرطة ولمبارد.
أظهر الجيش العثماني قوة تنظيمية مذهلة، مستخدمًا المدافع لتدمير أسوار المدن والقلاع. ورغم المقاومة الشرسة التي قادها البيزنطيون، استطاع الفاتح إخضاع الإقليمين، مؤمنًا طرق التجارة في بحر إيجة ومثبتًا سلطته في جنوب اليونان.
بعد الفتح، أبدى السلطان تسامحًا مع السكان المحليين، وأعطى الأمان لمن لم يقاوم. كما أعاد تنظيم الإدارة المحلية وأخضع ديميتريوس لحكم الدولة العثمانية، في حين فرّ توماس إلى إيطاليا طالبًا الدعم الأوروبي، لكنه لم يفلح.

فتح السلطان محمد الفاتح إقليم إسبرطة ولمبارد
حروب المورة

فتح أماصرة وضم قسطموني وسينوب: توسع استراتيجي بقيادة محمد الفاتح

في عام 1460م (864هـ)، واصل السلطان محمد الفاتح جهوده في توسيع نفوذ الدولة العثمانية، مُركزًا على المناطق الشمالية للأناضول. بدأ الفاتح بفتح مدينة أماصرة، التي كانت تحت حكم جنوة. أدرك حاكم المدينة قوة الجيش العثماني وهيبته، فاستسلم دون قتال، مسلّمًا المدينة بشكل سلمي لتجنب الدمار.
بعد السيطرة على أماصرة، وجه الفاتح أنظاره نحو قسطموني وسينوب، حيث كانتا تحت سيطرة إمارة القرمان. لم تصمد هذه الإمارات الصغيرة أمام قوة الجيش العثماني، مما أدى إلى ضمهما سريعًا. كان هذا التوسع خطوة استراتيجية لتعزيز السيطرة العثمانية على الساحل الشمالي للأناضول وتأمين طريق التجارة البحرية.
بفضل هذه الفتوحات، أصبح البحر الأسود شبه بحيرة عثمانية، مما عزز مكانة الدولة العثمانية كمركز قوة في المنطقة، ومهد الطريق لفتوحات أعظم في المستقبل.

ضم قوين حصار لأملاك الدولة العثمانية

قوين حصار، التي كانت تحت حكم إحدى الإمارات التركية المحلية، مثّلت نقطة استراتيجية تربط بين وسط الأناضول وشرقها. قرر السلطان محمد الفاتح ضمّها إلى الدولة العثمانية لتأمين الطرق التجارية والعسكرية في تلك المنطقة. بعد إرسال رسائل تحذيرية إلى أمير قوين حصار للمطالبة بالولاء والطاعة، رفض الأمير ذلك، مما دفع السلطان إلى تجهيز حملة عسكرية.
قاد الفاتح جيشه الكبير باتجاه قوين حصار في عام 1461م (866هـ)، وحاصر المدينة من عدة اتجاهات. سرعان ما أدرك الأمير المحلي عدم قدرته على مواجهة القوة العثمانية، فاستسلم بشروط تضمن له الأمان على حياته وأسرته. بهذا، أصبحت قوين حصار جزءًا من الدولة العثمانية، مما عزز سيطرتها الإدارية والعسكرية في المنطقة.

فتح طرابزون أخر معقل للإمبراطورية البيزنطية

بعد ضم قوين حصار، وجه السلطان أنظاره نحو إمبراطورية طرابزون البيزنطية، التي كانت آخر معقل بيزنطي مستقل في الأناضول. كانت طرابزون تحت حكم الإمبراطور داوود، الذي كان يتمتع بعلاقات وثيقة مع القوى الأوروبية والمماليك، لكنه لم يكن مستعدًا لمواجهة الجيش العثماني الهائل.
قاد السلطان محمد الفاتح حملة بحرية وبرية مشتركة باتجاه طرابزون. بينما تقدمت القوات البرية عبر الجبال الوعرة التي تفصل الأناضول عن طرابزون، أبحر الأسطول العثماني عبر البحر الأسود لفرض حصار بحري على المدينة. في 15 أغسطس 1461م (28 ربيع الأول 866هـ)، وصل الجيش العثماني إلى أسوار طرابزون.
فرض العثمانيون حصارًا محكمًا على المدينة، واستمرت المدافع في قصف الأسوار بشكل متواصل. ومع انقطاع الإمدادات البحرية والبرية، أدرك الإمبراطور ديفيد استحالة الصمود أمام الجيش العثماني، فسلّم المدينة للسلطان مقابل الأمان على حياته وحياة أسرته. دخل السلطان محمد الفاتح طرابزون منتصرًا، وأعلن ضمها إلى الدولة العثمانية، منهياً بذلك الوجود البيزنطي في الأناضول بالكامل.

الحملة على الأفلاق: مواجهة قوية بين السلطنة العثمانية وفلاديسلاف الثالث

في إطار التوسعات العثمانية تحت قيادة السلطان محمد الفاتح، جاءت الحملة على إمارة الأفلاق كإحدى أكثر الحملات صعوبة وتعقيدًا في عهده. كانت الأفلاق تحت حكم فلاد الثالث دراكولا، الذي اشتهر بوحشيته وكرهه الشديد للعثمانيين. مثّلت هذه الحملة اختبارًا حقيقيًا للقوة العثمانية والتكتيكات العسكرية ضد خصم عنيد.
بعد فتح القسطنطينية، بدأ السلطان محمد الفاتح في فرض السيطرة العثمانية على إمارات البلقان، بما في ذلك الأفلاق التي كانت تدفع جزية للدولة العثمانية منذ عهد السلطان مراد الثاني. ولكن مع تولي فلاد الثالث الحكم، تغيّر الوضع. رفض فلاد دفع الجزية، وبدأ في شن هجمات على الحدود العثمانية، مما أدى إلى مقتل الآلاف من المسلمين. كما قام بإعدام الرسل العثمانيين الذين أرسلهم السلطان محمد الفاتح للتفاوض، بطريقة مروعة، مما أثار غضب السلطان ودفعه إلى تجهيز حملة عسكرية ضخمة.
في عام 1462م (866هـ)، قاد السلطان محمد الفاتح جيشًا ضخمًا باتجاه الأفلاق. تحرك الجيش عبر الأراضي الوعرة التي شكلت تحديًا كبيرًا، لكنه كان مدعومًا بأسطول بحري لحماية القوات وتأمين الإمدادات. واجه الجيش العثماني تكتيكات حرب العصابات التي استخدمها فلاد الثالث، حيث لجأ إلى حرق القرى وتدمير الموارد لإضعاف الجيش العثماني.
خلال الحملة، خطط فلاد الثالث "دراكولا" لشن هجوم ليلي مفاجئ على المعسكر العثماني بهدف اغتيال السلطان محمد الفاتح. في إحدى الليالي المظلمة، هاجم فلاد وجيشه المعسكر العثماني، لكن الهجوم لم يحقق هدفه بسبب يقظة الجيش العثماني واستعداده.
بعد صد الهجوم، تقدم الجيش العثماني نحو العاصمة تارغوفيشت. هناك، صُدم الجيش بمشهد مروع: آلاف الجثث من الأسرى العثمانيين معلقة على الخوازيق في مشهد يعكس قسوة فلاد الثالث. ومع ذلك، لم يتراجع السلطان محمد الفاتح وواصل تقدمه نحو المدينة. اضطر فلاد الثالث إلى الفرار إلى المجر، حيث لجأ إلى الملك ماتياش كورفينوس.

نتائج الحملة العثمانية على الأفلاق

  • تنصيب حاكم موالٍ للعثمانيين: بعد هروب فلاد الثالث، عيّن السلطان محمد الفاتح حاكمًا جديدًا على الأفلاق من أسرة باساراب، ليضمن ولاء الإمارة للسلطنة.
  • إظهار قوة السلطنة: أثبتت هذه الحملة قدرة الجيش العثماني على مواجهة أصعب الظروف والتعامل مع أعداء شرسين.
  • تأمين الحدود الشمالية: ساهمت الحملة في تقليل التهديدات القادمة من البلقان وتعزيز السيطرة العثمانية في المنطقة.

فتح جزيرة مدللي: الحملة العثمانية التي عززت السيطرة البحرية في بحر إيجة

في عام 1460م، أطلق السلطان محمد الفاتح حملة عسكرية ناجحة ضد جزيرة مدللي، التي كانت تحت السيطرة البيزنطية. كانت الجزيرة تمثل نقطة استراتيجية هامة في بحر إيجة، وتهديدًا محتملًا للمصالح العثمانية. بعد حصار محكم، استطاع العثمانيون أن يسيطروا على الجزيرة، مما عزز موقعهم البحري في المنطقة وأدى إلى توسيع دائرة نفوذهم في البحر المتوسط.

فتح البشناق: كيف ضمنت الدولة العثمانية سيطرتها على منطقة البلقان

في عام 1463م، شنت الدولة العثمانية حملة قوية لفتح منطقة البشناق (البوسنة)، التي كانت تحت حكم ملك البشناق أسطفان. بعد سلسلة من المناورات السياسية والقتالية، تمكن السلطان محمد الفاتح من القضاء على مقاومة البشناق وضم أراضيهم إلى الدولة العثمانية. كانت الحملة العثمانية تهدف إلى تأمين الطريق إلى البحر الأدرياتيكي وتعزيز سيطرة الدولة على البلقان. بعد انتصار العثمانيين، تم تنفيذ عدة إصلاحات إدارية في البوسنة، مع المحافظة على استقلالية دينية وثقافية نسبية للمسلمين في المنطقة، مما جعلها جزءاً مهماً من الإمبراطورية العثمانية طوال العصور التالية.

حرب محمد الفاتح مع البندقية: صراع على البحر الأدرياتيكي

شهدت فترة حكم السلطان محمد الفاتح العديد من الصراعات مع القوى الأوروبية الكبرى، وكانت البندقية واحدة من أبرز هذه القوى التي احتلت مركزًا مهمًا في البحر الأبيض المتوسط. في البداية، كانت البندقية حليفة لعثمانيين، إلا أن التوترات بين الطرفين تصاعدت نتيجة لسياسات البندقية في البحر الأدرياتيكي وتوسع نفوذها التجاري والعسكري في المناطق التي كانت تحت سيطرة العثمانيين.
بدأت حرب محمد الفاتح مع البندقية في عام 1463م، حينما حاولت البندقية توسيع نفوذها في المناطق التي كانت خاضعة للسلطة العثمانية، بما في ذلك بعض الجزر في البحر الأدرياتيكي مثل جزيرة كريت، والتي كانت في ذلك الوقت بمثابة نقطة استراتيجية مهمة لتجارة البحر الأبيض المتوسط. السلطان محمد الفاتح لم يتوانَ في الرد على هذه التحركات، حيث كان يهدف إلى تعزيز سلطته في البحر وتأكيد الهيمنة العثمانية على المناطق البحرية.
في عام 1463م، شن العثمانيون حملة على مدينة "جوري" الواقعة على الساحل الشرقي للبحر الأدرياتيكي، التي كانت تحت سيطرة البندقية. بعد حصار طويل، تم فتح المدينة وضمت إلى الإمبراطورية العثمانية، مما شكل ضربة قاسية للبندقية. بعد هذا الانتصار العثماني، استمرت الحروب بين الطرفين حتى توقيع معاهدة سلام في عام 1479م.
لقد كان هذا الصراع جزءًا من استراتيجية محمد الفاتح لتعزيز سيطرة العثمانيين على التجارة البحرية ومنع أي تهديدات قد تضر بأمن الدولة. كما أن هذه الحروب ساعدت في تمهيد الطريق لتحقيق هيمنة العثمانيين على معظم المناطق الساحلية في البحر الأبيض المتوسط

الأسطول البحري العثماني محمد الفاتح
الأسطول العثماني البحري

الحملة الثانية على المجر: انتصارات السلطان محمد الفاتح وتعزيز الهيمنة العثمانية في أوروبا

في عام 1464م، شن السلطان محمد الفاتح الحملة الثانية على المجر في إطار استراتيجيته لتوسيع نفوذ الدولة العثمانية في أوروبا. كانت مملكة المجر تمثل تهديدًا كبيرًا بسبب موقعها الجغرافي على الحدود مع الإمبراطورية العثمانية، فضلًا عن تحالفاتها مع القوى الأوروبية المسيحية مثل البابوية والنمسا. في هذا السياق، قرر السلطان محمد الفاتح أنه حان الوقت للسيطرة على الأراضي المجرية بشكل كامل.
بدأت الحملة بهجوم منظم ضد المجر، حيث استطاع العثمانيون تحقيق انتصارات كبيرة، بما في ذلك حصار قلعة جوري في 1463م. ومع تصاعد الحملة، كانت معركة فارنا في عام 1444م هي النقطة الفارقة في الصراع، حيث خسر المجريون العديد من قادتهم، مما أتاح للعثمانيين السيطرة على معظم الأراضي المجرية.
على الرغم من أن الحملة لم تؤدِّ إلى السيطرة الكاملة على مملكة المجر، إلا أنها ساعدت في تقليص نفوذ المجر بشكل كبير. تم فرض الجزية على المملكة المجرية، وبدأت تحت حكم موالٍ للعثمانيين. هذه الحملة كانت جزءًا من خطة السلطان محمد الفاتح لتعزيز القوة العثمانية في أوروبا الشرقية وضمان تفوق الدولة العثمانية على جيرانها الأوروبيين.

الحملة على الأرناؤوط (ألبانيا) وهروب إسكندر بك 

في عام 1468م (873هـ)، بعد أن استقر الوضع في العديد من المناطق التي فتحها السلطان محمد الفاتح، كانت منطقة الأرناؤوط (ألبانيا) لا تزال تحت حكم إسكندر بك، الذي كان يقاوم الهيمنة العثمانية بشكل مستمر. إسكندر بك كان قد استطاع تحقيق العديد من الانتصارات على العثمانيين في فترات سابقة، مما جعله يشكل تهديدًا كبيرًا للسلطة العثمانية في البلقان.
ردًا على هذا التمرد المستمر، قرر السلطان محمد الفاتح شن حملة عسكرية شاملة ضد إسكندر بك. في هذه الحملة، التي بدأت في عام 1468م (873هـ)، كان هدف السلطان هو القضاء على آخر معاقل المقاومة في البلقان وتوسيع النفوذ العثماني في منطقة الأرناؤوط.
على الرغم من الجهود العظيمة التي بذلها إسكندر بك في الدفاع عن أراضيه، إلا أن الجيش العثماني، الذي كان مدعومًا بأسلحة حديثة وتكتيك ميداني متقدم، تمكن من تحقيق انتصارات متتالية على قواته. في ظل هذا الضغط العسكري الهائل، أدرك إسكندر بك أن مقاومته لم تعد مجدية، فقرر الهروب إلى المناطق الجبلية النائية في الشمال للنجاة بحياته.
بعد هروب إسكندر بك، استمرت الحملة العثمانية حتى تم القضاء على العديد من قواته وأصبحت معظم أراضي الأرناؤوط تحت السيطرة العثمانية. ولكن، على الرغم من هزيمته، لم تنتهِ مقاومة إسكندر بك تمامًا، حيث استمر في محاولة الحفاظ على نفوذه في بعض المناطق من خلال تحالفات مع القوى الأوروبية، لكن العثمانيين لم يتوقفوا عن متابعة تصفية وجوده حتى توفى فى النهاية بعد صراع دام 25 عام مع الدولة العثمانية.

حرب محمد الفاتح مع الإمارات التركمانية: صراع الهيمنة ونهاية إمارة قرمان

مع تزايد قوة الدولة العثمانية في عهد السلطان محمد الفاتح، دخلت الدولة في سلسلة من الصراعات مع القوى الإقليمية التي كانت تنازعها النفوذ والسيطرة. وكان من بين هذه القوى اتحاد التركمان الآق قويونلو، الذيقدريين، وإمارة القرمان، الذين سعوا للحفاظ على وجودهم في ظل التوسع العثماني المتسارع.

القضاء على الإمارات التركمانية وتوحيد الأناضول محمد الفاتح
القضاء على الإمارات التركمانية

نهاية إمارة قرمان

في ظل هذا الصراع، كانت إمارة قرمان بقيادة إبراهيم بك تتآمر مع الآق قويونلو ضد العثمانيين. دعم إبراهيم بك التمردات الداخلية وسعى لتوسيع نفوذه على حساب الدولة العثمانية.
رد السلطان محمد الفاتح على هذه التحديات بحملة عسكرية حاسمة. في عام 1468م (873هـ)، قاد الجيش العثماني هجومًا واسعًا استهدف معاقل إمارة قرمان، وعلى رأسها مدينة قونية. بعد مقاومة محدودة، استسلم إبراهيم بك، وتم ضم أراضي الإمارة بالكامل إلى الدولة العثمانية. بهذا، انتهى وجود إمارة قرمان ككيان سياسي مستقل وأصبحت جزءًا من الإمبراطورية العثمانية.

فتح جزيرة وابية: خطوة حاسمة لتعزيز السيطرة البحرية

في عام 1470م (875هـ)، أطلق السلطان محمد الفاتح حملة بحرية قوية بهدف فتح جزيرة وابية (نيغروبونت)، التي كانت خاضعة لسيطرة جمهورية البندقية. شكلت الجزيرة موقعًا استراتيجيًا بالغ الأهمية في بحر إيجه، مما جعلها هدفًا رئيسيًا للتوسع العثماني. قاد الفاتح أسطولًا ضخمًا وحاصر الجزيرة من البر والبحر، حيث استخدمت المدافع العثمانية المتطورة لتدمير الأسوار والتحصينات. وبعد معارك شرسة، تمكن العثمانيون من دخول الجزيرة والسيطرة عليها بالكامل. كان هذا الفتح نقطة تحول عززت هيمنة الدولة العثمانية في بحر إيجه، ومهدت الطريق للتوسع البحري في المنطقة.

تحجيم الذيقدريين

كان بنو ذو القدر (الذيقدريون) من بين الدويلات التركمانية التي حاولت الوقوف أمام التوسع العثماني، لكنها وجدت نفسها محاصرة بين قوتين كبيرتين: العثمانيين والمماليك. بعد عدة مواجهات، اضطر الذيقدريون إلى الخضوع للعثمانيين ودفع الجزية، مما جعلهم في موقف تابع للدولة العثمانية لفترة طويلة.

صراع الآق قويونلو ومحمد الفاتح 

في عام 1467م (872هـ)، بدأ الصدام بين العثمانيين بقيادة السلطان محمد الفاتح ودولة الآق قويونلو تحت حكم أوزون حسن. كانت دولة الآق قويونلو تمثل قوة تركمانية كبيرة في منطقة الأناضول الشرقية وشمال بلاد فارس. حاول أوزون حسن بناء تحالفات واسعة مع القوى الإقليمية مثل إمارة قرمان والدويلات المجاورة لصد العثمانيين.
السلطان محمد الفاتح، الذي كان يهدف إلى القضاء على أي تهديد محتمل للدولة العثمانية، قاد حملة عسكرية ضخمة ضد أوزون حسن. تمكن الجيش العثماني بفضل تفوقه في التنظيم والأسلحة الحديثة من تحقيق نصر حاسم في معركة أوتلوق بلي عام 1473م (878هـ)، مما أدى إلى كسر شوكة الآق قويونلو وتقليص نفوذهم بشكل كبير.

فتح جزيرة وابية: خطوة حاسمة لتعزيز السيطرة البحرية

في عام 1470م (875هـ)، أطلق السلطان محمد الفاتح حملة بحرية قوية بهدف فتح جزيرة وابية (نيغروبونت)، التي كانت خاضعة لسيطرة جمهورية البندقية. شكلت الجزيرة موقعًا استراتيجيًا بالغ الأهمية في بحر إيجه، مما جعلها هدفًا رئيسيًا للتوسع العثماني. قاد الفاتح أسطولًا ضخمًا وحاصر الجزيرة من البر والبحر، حيث استخدمت المدافع العثمانية المتطورة لتدمير الأسوار والتحصينات. وبعد معارك شرسة، تمكن العثمانيون من دخول الجزيرة والسيطرة عليها بالكامل. كان هذا الفتح نقطة تحول عززت هيمنة الدولة العثمانية في بحر إيجه، ومهدت الطريق للتوسع البحري في المنطقة.

الحملة العثمانية على البغدان: استعراض القوة في أوروبا الشرقية

في عام 1476م (881هـ)، أطلق السلطان محمد الفاتح حملة عسكرية كبيرة ضد إمارة البغدان، التي كانت تحت حكم الأمير ستيفان الكبير. جاءت هذه الحملة كردّ على تمرد البغدان وعصيانهم المتكرر، إضافة إلى تعاونهم مع القوى الأوروبية المناهضة للدولة العثمانية.
قاد السلطان جيشًا ضخمًا مدعومًا بوحدات الإنكشارية والمدفعية الحديثة، حيث تقدم نحو البغدان بهدف إخضاعها وإعادة فرض السيادة العثمانية. دارت معركة شرسة بين الطرفين في معركة وادي الأبيض، حيث لجأ الأمير ستيفان إلى تكتيكات حرب العصابات بسبب ضعف جيشه مقارنة بالقوات العثمانية.
رغم الخسائر التي تكبدها الجانبان، تمكن العثمانيون من إحراز انتصار استراتيجي، حيث أجبروا البغدان على الخضوع مجددًا للسيطرة العثمانية. استعاد العثمانيون هيمنتهم على المنطقة، وفرضوا الجزية على الأمير ستيفان، مما عزز نفوذ الدولة العثمانية في أوروبا الشرقية.

الحملة الثالثة على المجر: استعراض القوة العثمانية في قلب أوروبا

في عام 1477م (882هـ)، أطلق السلطان محمد الفاتح حملته الثالثة على المجر، وذلك في إطار الصراع المستمر بين الدولة العثمانية والمملكة المجرية. جاءت هذه الحملة نتيجة تحالفات مجرية مع القوى الأوروبية المعادية للعثمانيين، ومحاولات المجر لإضعاف النفوذ العثماني في البلقان.
حشد السلطان جيشًا ضخمًا مزودًا بأحدث الأسلحة والمدفعية العثمانية، وسار به نحو الحدود المجرية. قاد الجيش الإنكشارية في المقدمة، تلتها فرق الخيالة والفروسية الثقيلة، بينما كان الأسطول البحري العثماني يضمن تأمين الدعم على طول نهر الدانوب.
دارت معركة شرسة على حدود المملكة المجرية، حيث واجه العثمانيون جيشًا مدججًا بالمرتزقة الأوروبية والفرسان المجر المعروفين بقوتهم وشجاعتهم. رغم المقاومة القوية، استطاع العثمانيون تحقيق انتصارات جزئية، واستولوا على عدد من الحصون الحدودية المهمة، ما عزز هيمنتهم على المنطقة وأدى إلى إضعاف القوة العسكرية المجرية بشكل ملحوظ.
ورغم الانتصارات العسكرية، لم تكن الحملة كافية لتحقيق فتح شامل للمجر، حيث استمرت التحديات السياسية والعسكرية بين الطرفين. ومع ذلك، عززت الحملة الثالثة مكانة الدولة العثمانية كقوة لا تُضاهى في أوروبا الشرقية، وأكدت تصميم السلطان محمد الفاتح على توسيع حدود الدولة وتعزيز قوتها الإقليمية.

حملة السلطان محمد الفاتح على المجر
حملة محمد الفاتح على المجر

فتح إشقودرة وما حولها: السيطرة العثمانية على شمال ألبانيا

في عام 1478م (883هـ)، توجه السلطان محمد الفاتح نحو مدينة إشقودرة، الواقعة شمال ألبانيا، والتي كانت تعتبر واحدة منأقوى معاقل المقاومة ضد الدولة العثمانية. كانت المدينة تحت سيطرة عائلة كاستريوتي المدعومة من القوى الأوروبية، وخاصة جمهورية البندقية، التي رأت في إشقودرة حصناً استراتيجياً لحماية مصالحها في البحر الأدرياتيكي.
أعد العثمانيون جيشًا كبيرًا، مدعمًا بالمدفعية الثقيلة والمعدات الحربية المتطورة. وقد أحاطت القوات العثمانية بالمدينة من جميع الجهات، وفرضت عليها حصارًا بريًا وبحريًا مشددًا. ركز السلطان محمد الفاتح على تحطيم أسوار المدينة باستخدام المدفعية العملاقة، التي أثبتت فعاليتها في معارك سابقة، خاصة في فتح القسطنطينية.
رغم شدة الحصار وضراوة الهجمات العثمانية، أبدى المدافعون مقاومة عنيفة، حيث صمدت الحامية لفترة طويلة بدعم من الإمدادات التي وفرتها البندقية عبر البحر. لكن مع استمرار القصف المدفعي المكثف والهجمات المنظمة، تمكن العثمانيون من تدمير أجزاء كبيرة من أسوار المدينة، مما أجبر المدافعين على التراجع إلى قلب المدينة.
بحلول نهاية عام 1478م (883هـ)، نجح العثمانيون في اقتحام المدينة والسيطرة عليها بعد معارك شرسة. كما تم ضم القرى والبلدات المحيطة بإشقودرة، مما عزز السيطرة العثمانية على شمال ألبانيا بشكل كامل.
أدى فتح إشقودرة إلى إنهاء المقاومة المنظمة في ألبانيا، مما عزز الهيمنة العثمانية على المنطقة. كما تسبب هذا النصر في إضعاف نفوذ البندقية في شرق البحر الأدرياتيكي. أصبحت إشقودرة بعد ذلك قاعدة استراتيجية مهمة للإمبراطورية العثمانية، ولعبت دورًا بارزًا في تأمين الجناح الغربي للدولة.

صلح الدولة العثمانية وجمهورية البندقية: اتفاقية تاريخية أنهت النزاع الطويل

في عام 1479م (884هـ)، وبعد سنوات من الحروب الطاحنة بين الدولة العثمانية وجمهورية البندقية، توصّل الطرفان إلى اتفاق صلح تاريخي. جاء هذا الاتفاق بعد سلسلة من الصراعات البحرية والبرية، حيث استنفدت الحرب موارد الطرفين وأثّرت على مصالحهما الاقتصادية والتجارية.

أسباب الصلح بين الدولتين

1.الخسائر البشرية والاقتصادية: أدت الحرب إلى استنزاف كبير للطرفين، خاصة مع توسع رقعة المعارك على جبهات متعددة.
2.انتصارات العثمانيين المتكررة: نجحت الدولة العثمانية في السيطرة على مناطق استراتيجية، مثل إشقودرة وجزر أخرى، مما جعل البندقية تفقد أهم معاقلها في البحر الأدرياتيكي.
3.الحاجة إلى الاستقرار التجاري: كانت البندقية تعتمد على التجارة مع الشرق، وعرقلت الحرب طرقها التجارية، مما جعل الصلح ضرورة لاستعادة النشاط الاقتصادي.

بنود الاتفاق

1.اعتراف البندقية بالسيادة العثمانية على الأراضي التي تم فتحها: شملت هذه الأراضي مدينة إشقودرة والجزر التي استولى عليها العثمانيون خلال الحرب.
2.دفع جزية سنوية: التزمت جمهورية البندقية بدفع جزية مالية قدرها 10,000 دوقية ذهبية للدولة العثمانية مقابل السماح لها بمواصلة التجارة في الأراضي العثمانية.
3.استعادة العلاقات التجارية: أعيد فتح الموانئ العثمانية أمام السفن التجارية البندقية، مما أنعش الاقتصاد لكلا الطرفين.

انعكاسات الصلح

  • تعزيز النفوذ العثماني: أكد الاتفاق على هيمنة الدولة العثمانية في منطقة البحر الأدرياتيكي، وأضعف مكانة البندقية كقوة إقليمية.
  • ازدهار التجارة: عاد النشاط التجاري بين الشرق والغرب إلى طبيعته، مما أفاد اقتصادات الدولتين.
  • التمهيد لتحالفات جديدة: سمح الصلح للطرفين بإعادة ترتيب أولوياتهما السياسية والعسكرية لمواجهة تحديات أخرى.

مثّل هذا الصلح انتصارًا سياسيًا ودبلوماسيًا للدولة العثمانية، حيث أثبت قدرتها على فرض شروطها على أقوى القوى الأوروبية آنذاك. من جهة أخرى، حافظت البندقية على مصالحها التجارية، ما يدل على مرونة دبلوماسيتها رغم الهزائم العسكرية.

الظهور الأول للصراع بين الدولة العثمانية والمماليك في عهد محمد الفاتح

في عهد السلطان محمد الفاتح (855-886هـ / 1451-1481م)، بدأت أولى بوادر التوتر بين الدولة العثمانية والدولة المملوكية. على الرغم من أن العثمانيين كانوا يركزون جهودهم على الفتوحات الأوروبية والتوسعات في الأناضول، إلا أن العلاقة مع المماليك شهدت تصعيدًا لأسباب متعددة، أبرزها التنافس على النفوذ الإقليمي والسيطرة على الطرق التجارية والمناطق الاستراتيجية.

أسباب الصراع بين العثمانيين والمماليك:

  • السيطرة على الحجاز والمقدسات الإسلامية

    كان المماليك يعتبرون أنفسهم حماة الحرمين الشريفين، بينما بدأ العثمانيون يتطلعون لتعزيز نفوذهم في المنطقة الإسلامية بأكملها، بما في ذلك الحجاز، وهو ما أثار مخاوف المماليك.
  • التوتر حول الأناضول وبلاد الشام: توسع السلطان محمد الفاتح في الأناضول والقضاء على إمارات تركمانية مثل قرمان، التي كانت حليفة للمماليك، دفع السلطان المملوكي قايتباي إلى النظر بعين القلق تجاه الطموحات العثمانية.

  • السيطرة على طرق التجارة

    تنافست الدولتان على طرق التجارة القادمة من الهند والشرق الأقصى عبر البحر الأحمر والشام، حيث أراد كل منهما الاستفادة من عوائد التجارة والضرائب.
  • دعم إمارة قرمان: عندما قضى السلطان محمد الفاتح على إمارة قرمان (873هـ / 1468م)، التي كانت موالية للمماليك، أثار ذلك غضب السلطان المملوكي خشقدم.
  • حاول المماليك تقديم الدعم للقبائل التركمانية في الأناضول لمقاومة العثمانيين، مما أدى إلى زيادة التوتر.
  • حادثة الحجاج

    حدثت مواجهة غير مباشرة عندما أوقف المماليك قوافل الحجاج العثمانيين المتجهة إلى مكة، متذرعين بحماية الطرق من القوافل المسلحة، وهو ما اعتبره العثمانيون تعديًا على سلطتهم.

  • لحملات على الأناضول

    أرسل المماليك بعض الحملات العسكرية لدعم المتمردين التركمان في الأناضول الذين ثاروا ضد الحكم العثماني، مما أدى إلى تصعيد إضافي بين الطرفين.

نتائج الصراع:

  • بقيت الصدامات بين الدولتين محدودة خلال عهد السلطان محمد الفاتح، حيث انشغل العثمانيون بالفتوحات في أوروبا وآسيا الصغرى.
  • ترك السلطان محمد الفاتح التعامل مع الدولة المملوكية للمرحلة اللاحقة، حيث أدت هذه التوترات إلى مواجهات أكبر في عهدي السلطان بايزيد الثاني والسلطان سليم الأول، الذي نجح في إنهاء الدولة المملوكية تمامًا في معركة مرج دابق عام 922هـ / 1516م.

حصار جزيرة رودوس وفتوحات جنوب إيطاليا في عهد السلطان محمد الفاتح

عندما فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية، رأى نفسه الوريث الشرعي للإمبراطورية البيزنطية، واعتبر أن كل الأراضي التي كانت تابعة لها سابقًا أصبحت ضمن دائرة طموحاته. ومن هذا المنطلق، واصل السلطان توسيع رقعة الدولة العثمانية في البحر المتوسط، متجهًا نحو حصار جزيرة رودوس وفتوحات جنوب إيطاليا.
كانت جزيرة رودوس تحت سيطرة فرسان القديس يوحنا، الذين اتخذوها قاعدة لشن هجماتهم على السفن العثمانية والموانئ الساحلية. مثلت رودوس تهديدًا مستمرًا للتجارة العثمانية وللسيطرة البحرية في شرق البحر المتوسط. في عام 878هـ / 1478م، أعد السلطان حملة عسكرية ضخمة لمحاصرة الجزيرة، مستعينًا بأسطول بحري مدجج بالسفن الحربية، بالإضافة إلى المدفعية الثقيلة التي اشتهرت الدولة العثمانية باستخدامها بفعالية. على الرغم من الحصار المحكم والضربات العنيفة التي استهدفت أسوار الجزيرة، واجهت القوات العثمانية مقاومة شرسة من فرسان القديس يوحنا المدعومين من أوروبا. أدى ذلك إلى فشل الحصار مؤقتًا، مما أجبر السلطان على الانسحاب دون تحقيق النصر.
في سياق آخر، تحول اهتمام السلطان محمد الفاتح نحو جنوب إيطاليا لتعزيز نفوذه في البحر المتوسط وتوسيع نطاق دولته نحو أوروبا الغربية. في عام 885هـ / 1480م، أطلق السلطان حملة بحرية على مدينة أوترانتو الإيطالية بقيادة جدك أحمد باشا. تمكنت القوات العثمانية من اقتحام المدينة والسيطرة عليها، مما أثار الرعب في أوساط الممالك الأوروبية. كان الهدف الأكبر للسلطان أن يجعل من جنوب إيطاليا قاعدة استراتيجية لتحقيق مزيد من التوسع في أوروبا، إلا أن وفاته في العام التالي 886هـ / 1481م حالت دون تحقيق هذه الطموحات الكبرى، وأجبرت القوات العثمانية على الانسحاب من أوترانتو.
كان حصار رودوس وفتوحات جنوب إيطاليا دليلًا على الطموحات العالمية للسلطان محمد الفاتح، الذي لم يكتف بتوسيع الدولة شرقًا وشمالًا، بل تطلع إلى السيطرة على قلب أوروبا، مما جعله أحد أعظم القادة في التاريخ

حصار جزيرة رودوس من الأسطول العثمانى
حصار جزيرة رودوس

المصادر التاريخية الموثوقة عن السلطان محمد الفاتح

لمعرفة أحداث حياة السلطان محمد الفاتح وإنجازاته، يمكن الرجوع إلى مجموعة من المصادر التاريخية الموثوقة التي توثق التفاصيل الدقيقة عن مسيرته العسكرية والسياسية:

1.كتاب "تواريخ آل عثمان" (Tevârîh-i Âl-i Osman):
من تأليف المؤرخ العثماني عاشق باشا زاده، الذي يعد من أبرز المؤرخين المعاصرين للفترة العثمانية المبكرة. يتناول الكتاب بالتفصيل فتح القسطنطينية، الحملة على المجر، وحصار جزيرة رودوس، مع التركيز على عبقرية السلطان العسكرية وسياساته في توحيد الأراضي.
2.كتاب "فتح القسطنطينية وسيرة السلطان محمد الفاتح":
من تأليف المؤرخ العربي ابن إياس، الذي وصف فتح القسطنطينية وأبرز فصول حكم السلطان، بما في ذلك سيطرته على الأناضول وفتوحات جنوب إيطاليا، بالإضافة إلى سياسته في التعامل مع المماليك والدول الأوروبية.
3."تاريخ الدول العثمانية" لستانفورد شو:
يقدم هذا المصدر نظرة تحليلية موسعة عن تاريخ الدولة العثمانية، ويغطي الحروب مع البندقية، صراعات السلطان مع المجر، فتح جزيرة رودوس، وظهور النزاعات مع المماليك. الكتاب يعرض أيضًا التطورات السياسية التي قادت إلى صلح البندقية والدولة العثمانية.
4."محمد الفاتح: دراسة تاريخية" تأليف أكرم يالماز:
يناقش الكتاب إنجازات السلطان بشكل موسع، بما في ذلك حملة البغدان وفتوحات شبه جزيرة القرم. كما يركز على تأثير الفاتح على تطور النظام العسكري والإداري للدولة العثمانية.

تلك المصادر تعتبر أساسية لفهم السياق التاريخي لإنجازات محمد الفاتح وشخصيته القيادية، وتوفر معلومات دقيقة ومفصلة عن جميع الأحداث التي ذكرتها في الفقرات السابقة.

وفاة السلطان محمد الفاتح: نهاية عصر عظيم

في يوم 4 ربيع الأول 886 هـ الموافق 3 مايو 1481م، أُسدل الستار على حياة السلطان محمد الفاتح، الرجل الذي غيّر مسار التاريخ الإسلامي والعالمي. كانت وفاته أثناء قيادته لحملة عسكرية ضخمة لم تُعرف وجهتها بدقة، لكن بعض المصادر تشير إلى أنها كانت باتجاه إيطاليا لاستكمال فتوحاتها، أو ربما نحو المماليك نتيجة التوترات المتزايدة بين الدولتين.

توفي السلطان فجأة في معسكر الجيش بمنطقة قرب مدينة جبزة شمال الأناضول، في ظروف غامضة أثارت الجدل بين المؤرخين. يشير بعضهم إلى أن وفاته كانت طبيعية نتيجة مرض أصابه، مثل النقرس الذي عانى منه لفترة طويلة. بينما ترجح مصادر أخرى أنه قد تعرض للتسمم، ويُتهم في ذلك طبيبه الخاص يعقوب باشا، الذي كان على صلة بخصوم السلطان.

  • دفن السلطان في ضريح داخل جامع الفاتح بإسطنبول، وهو المعلم الذي أمر ببنائه بنفسه.
  • أحدثت وفاته فراغًا كبيرًا في القيادة العثمانية، وبدأت صراعات داخلية بين أبنائه على العرش.
  • مع ذلك، استمرت إنجازاته في تشكيل مستقبل الدولة العثمانية، التي أصبحت واحدة من أعظم الإمبراطوريات في التاريخ.

الخاتمة

يظهر لنا السلطان محمد الفاتح كأحد أعظم القادة العسكريين في التاريخ، الذي استطاع أن يحوّل مجرى الزمن بفتوحاته العظيمة. من فتح القسطنطينية التي كانت حلمًا طال انتظاره، إلى الحروب الكبرى ضد القوى الأوروبية والمماليك، مرورًا بحملاته المظفرة ضد البندقية وصربيا، وفتوحاته التي غيرت وجه العالم الإسلامي في عهده، أثبت الفاتح أنه ليس مجرد قائد عسكري، بل كان رمزًا للعبقرية السياسية والإستراتيجية التي أرسى دعائم إمبراطورية عظيمة. سلطانه كان امتدادًا لإرث طويل من الانتصارات والتوسع، وهو ما جعل اسمه يتردد في أرجاء العالم، من الشرق إلى الغرب، حيث أصبح لقب "فاتح القسطنطينية" جزءًا من تاريخ الإنسانية بأسره.
لقد تجلت حكمة السلطان محمد الفاتح في قدرته على الدمج بين القوة العسكرية والدبلوماسية الفائقة، وبين الحفاظ على الاستقرار الداخلي في إمبراطوريته والامتداد الخارجي ليشمل الأراضي الواسعة التي تحكمها الدولة العثمانية حتى يومنا هذا. لذلك، لا يزال الفاتح يُعتبر واحدًا من أكثر الشخصيات تأثيرًا في التاريخ الإسلامي والعالمي.

عزيزي القارئ، نود أن نسمع رأيك .

  • هل تعتقد أن فتح القسطنطينية كان نقطة تحول حاسمة في التاريخ الإسلامي؟
  • كيف ترى دور محمد الفاتح في تعزيز قوة الدولة العثمانية؟
  • ما هي أكثر المعارك التي تعتقد أنها كانت مفصلية في مسيرته؟
  • كيف أثر حكمه على العالمين الشرقي والغربي؟

ننتظر مشاركتك القيمة في التعليقات!

مقالات ذات صلة

عصور ذهبية
عصور ذهبية
تعليقات